hossamhasan

شارك على مواقع التواصل

(1)
خرج من الباب الخلفي لمنزله وفكر "المنزل ليس المكان الأنسب لتذهب إليه بعد أن ترتكب الجريمة".
إذ ليس من المستبعد أن ترتكب فيه الجريمة الثانية، هرع إلى الشارع وهو يتخبط في المارة، فخلع رداءه الملطخ بالأحمر بعد أن لاحظ النظرات الخائفة التي تحدق فيه، وإن لم يعرف كيف يخفي يديه الدامية، حتى وجد دلوًا به ماء على باب منزل توقف عنده ليغسل فيه يديه، فخرجت امرأة وعنّفته قبل أن ترى وجهه وتكفهر ملامحها، فقالت بهدوء وعلى وجهها علامات الذعر:
- الأبكم!.. إنه أنت!! أنت من يبحثون عنه!!!
وقبل أن تصرخ سحب سكينه من وراء ظهره ووضعه على فمه، ثم أخرج لسانه ومرر عليه السكين كما لو كان يقطعه، في تحذير لا يحتاج إلى الكلام ليخبر أن تصمت، فتسمّرت المرأة في مكانها وظل هو يراقبها حتى يتأكد أنها قد فهمت، وتأكد بالفعل عندما أغشي عليها.
أراد أن يستكمل طريقه الذي لا يعلمه إلى الآن، فوجد رجالًا يحملون العصيان والسيوف يقتربون، فابتعد من الجهة الأخرى يحاول أن يتوارى عن كل شيء، ولسببٍ ما شعر بالراحة أنها جهة البحر، ولسببٍ ما قرر أن يذهب إلى الميناء.
وأثناء سيره المتوتّر مرّ من أمام الماخور الذي كان فيه ليلة البارحة والليلة التي تسبقها والتي تسبقها، حتى كان بمثابة منزله في بعض الأيام، وإذ كان الزبون المثالي فقد كان معروفًا في المكان، وكانت العاهرات يرحّبن به قبل حتى أن يدخل، لكن ليس هذه المرة، فحين اقترب أُغلقت شرفات المكان ودخل من كان منهن على الطريق يستدرجنَ الزبائن، فاستوقف إحداهن كانت معه الليلة الماضية؛ بعصبية أخافتها فقالت دون أن يَسأل:
- ماذا تريد الآن؟ المدينة بأكملها تبحث عنك، وسيقتلونك إذا ما وجدوك، ارحل عن هنا!!
أخرج من رداءه عملة فضيّة كانت آخر ما معه، وقدمها لها وهو يبتسم ابتسامة غير واثقة، فضربت يده لتسقط العملة وتجري على الأرض، فهرع وراءها ليستعيدها، ثم رجع إلى العاهرة ليجدها تركض إلى باب الماخور، فركض وراءها وكاد يدركها، لكنها دخلت وصفقت الباب في وجهه.
عاد إلى طريقه نحو الميناء يفكر "هذا أيضًا لم يكن المكان الذي تذهب إليه بعد أن ترتكب جريمتين"، وحين اقترب أن يصل إلى الميناء سمع صوتًا يألفه طوال حياته لكن لم يكن يلقي له بالًا طوال حياته، حتى صار عنده مجرد إعلان عن الأوقات، أو عن مواضع الشمس في السماء.
سمع صوت الأذان في حياته ربما آلاف المرات، لكن هذه كانت أول مرة يدرك أنه يناديه، وأنه يجب عليه تلبية النداء، تتبع الأذان إلى مصدره فوجد المسجد عن يمينه، لكن عن يساره كانت وجهته الأصلية، الميناء.
رغم أنه لم يدخله سوى بضع مرات في حياته إلا أنه كان هناك جزء صغير مبهم في أعماقه يريده أن يفعل، ذلك الجزء الصغير يعرف أن المسجد هو ملجأ لا بأس به لأحد قد ارتكب جريمتين أو أي عدد من الجرائم، لكن الجزء اليائس البائس منه أخبره أنه لا يجب أن يدخل ذلك المكان المقدس وهو غير طاهر، ولا يزال أثر الدماء على يديه، ولا يزال أثر الثمالة في عقله.
على الجانب الآخر كان البحر، وما وراءه من عوالم أخرى وبلدان أخرى وحياة أخرى، كان دائمًا ما يشعر أن هناك شيئًا يناديه في البحر، أو ربما هو البحر نفسه، وأن مصيره سيأخذه إلى مكان ما وراء البحر رغم أنه لم يركبه في حياته قط، ربما الآن الوقت الأنسب لتلبية نداء البحر والسعي وراء مصيره، ربما سيأخذه إلى بلاد العثمليّة أو ربما فرنسا أو إيطاليا أو أي مكان غير هنا، فكر في ذلك فانتابه شعور بالاطمئنان يكاد لا يذكر، لكنه كان كافيًا لأن يحسم أمره.
بدأت وفود الرجال الصالحين بالمجيء لتلبية نداء الصلاة، وبدأ المكان يزدحم قبل حتى أن ينتهي الأذان، لكنه قرر ألا يعبأ به كما فعل طوال حياته، وابتعد رويدًا عن المسجد إلى الميناء لتلبية النداء الآخر.
وجد الميناء هادئ جدًا بالنسبة لوقت الظهيرة ربما لأنه موعد الصلاة، لكن كان هناك بعض الرجال يحمّلون سفينة بالبضائع والأمتعة، وهؤلاء أيضًا ذهبوا حين أقيمت الصلاة، وانتظر إلى أن أصبح المكان شبه خالٍ وتوجه إلى إحدى السفن.
لم تتردّد قدمه في الصعود إلى متن السفينة، لكن قلبه كاد أن يخرج من صدره من شدة خفقانه حتى أنه يكاد يسمعه وهو يصرخ فيه "ماذا تفعل أيها الجبان الرعديد؟! إلى أين تظن نفسك ذاهب؟ لن تجرؤ"، لكنه أبى أن يسمع خفقات قلبه وصعد على كل حال، وأول ما فعل انتابته رعشة هزّته، وشعر بالخَدَر في ساقه، والتنميل في رأسه، وانتابت القشعريرة كامل جسده، واشتدت الرياح فجأة وأظلم الجو قليلًا رغم صفاء السماء، وتمايلت السفينة فاختل اتزانه وجلس يختبئ وراء بعض الأمتعة، فتكوّر على نفسه وانتظر أن تبحر السفينة.
ركب السفينة دون أن يودع أحدًا، متسللًا لم يكن معه أجرة الركوب، لم يكن معه سوى سكينه والملابس التي عليه، كان قلبه يرجه رجًّا، وجسده يرتعد من البرد، ومعدته ورأسه يؤلمانه من أثر الثمالة، كل ذلك، ومع تمايل السفينة المستمر، وتذكره لكل ما فعل اليوم؛ جعله يشعر بالغثيان ويتقيأ ما في بطنه، ثم هوى على جانبه وغاب عن الوعي بجانب قيئه.
كان ذلك في أواخر العام 1840.
★★★

كان يسبح وحيدًا في المحيط.
هو كل العالم بالنسبة له، ذلك العالم الشاسع الذي لم يعلم له حدود، فلربما هناك ألف يابسة لها ألف شاطئ، لكن المياه في المحيطات كلها واحدة، بغض النظر عمّا يدّعيه المدّعون من أن هناك ثلاثة محيطات، فهو بإمكانه أن يسبح بمحاذاة أيّة يابسة وسيمر بشواطئ تلك المحيطات الثلاثة، قبل أن يجد نفسه قد عاد حيث بدأ.
ليس بعيدًا على شيء كالمحيط وهو أكبر شيء في العالم؛ أن يكون أسكن شيء في العالم، ذلك السكون السرمدي كأنه نائمًا منذ الأزل، ومهما ضربَته العواصف وحاولَت إيقاظه فهي فقط تملّس على جزء يسير من سطحه.
ربما يظن أهل اليابس أن حياة أهل المحيط كلها في الأعماق، وهذا غير صحيح، فهناك قِلّة منهم يتحتّم عليهم زيارة السطح والتعرض للهواء من حين لآخر، فهم ملعونون بذلك كأن لهم حياتين؛ حياة سمك، وحياة حيوان.
فحياته كحيوان تُحتّم عليه القيام برحلة كل فترة إلى سطح المحيط طلبًا للنَفَس من الهواء، أما حياته كسمكة فهي التي يعيش فيها في أعماق المحيط حُرًا، بل ملكًا في ذلك الجزء الأكبر والأظلم من عالمه، ليس ظلمة ليل، فالمحيط لا يعبأ بليل أو نهار، لكنها ظلمة خاصة، ظلمة رغم كل نور.
تلك القِلّة الملعونة من سُكان المحيط، وهو على رأسهم؛ لا تتنفس من الماء كالأسماك، ولا تعيش على اليابسة كالحيوانات، لكن ما يجعلهم ملعونين أساسًا هو أنهم يتشاركون ذلك الهواء وذلك النَّفَس مع كائنات أخرى هي الأكثر أنانية ووحشية وتجبّرًا وتكبّرًا، وبالنسبة له فهم الكائنات الأكثر إثارة للاهتمام.
يصادِف البشر كثيرًا أثناء سباحته بالقرب من السطح، هم أيضًا يسبحون لكن من فوق سطح الماء فقط دون أن يمسّوها، وفي حين أنهم يهلكون في المياه، فقد أحضروا معهم قطعة صغيرة من اليابسة، دائمًا ما تبدو له كأنها تطوف في السماء على سحابة، تلك اليابسة التي يسمونها سفينة تعينهم على خوض المحيط، في تكبّر وغطرسة منقطعي النظير، وكثيرًا ما يراهم ينزلون من تلك اليابسة الصغيرة إلى واحدة أصغر، لتقرّبهم أكثر منه ومن التعساء أمثاله ممن يشاركونهم الهواء، ليس لأي شيء سوى لقتلهم.
يقتل البشر الحيتان لأسباب عديدة، لكنه مهما عَلِمَ من تلك الأسباب فلا يستوعبها حقًا، رغم أن لديه قدرة نادرة على إعمال عقله مثلهم، وهذه لعنة أخرى تجعله أكثر تعاسة وبؤسًا من كثير من الحيتان الأخرى العادية.
وكان البشر قد قتلوا كل الحيتان من فصيلته، أو هذا ما يدّعون، فعلى الرغم من أنه لم يرَ حوتًا من فصيلته يشبهه منذ أن قُتِلت أمه أمام عينيه؛ إلا أنه لا يصدق أنهم قُتِلوا حتى أُبِيدوا، فلطالما كان يشعر بهم في مكان ما بعيد في المحيط، فكل حوت ملعون بعقل يفكر هو حوت لديه القدرة على الإحساس بالحيتان الأخرى العادية من نفس نوعه، وليس مجرد الإحساس بل يتحكم فيهم بكل معاني الكلمة.
فكثيرًا ما يرى حيتان مميزة مثله وهي تُحرك حيتان أخرى عادية لكن من نفس الفصيلة، يجعلونهم يذهبون في أي مكان ويغنون لتوصيل رسالات لمكان آخر، ورغم أنه لم يقابل حوتًا من فصيلته من قبل؛ إلا أنه متأكدًا من أن لديه تلك القدرة على التحكم فيهم.
إذًا فهو حوت، وهو حوت يعقل، وهو حوت بإمكانه التحكم في حيتان أخرى، وهو حوت ضخم جدًا بشكل يفوق العادي بمراحل، لكن ليس كل ذلك ما يميزه عن باقي الحيتان الصغيرة البلهاء، فهناك قدرة أخرى هي ما يُعرَف بها وتُميّزه حقًا، أو هي اللعنة الأساسية التي يعتقد أنها السبب الأول في كل تلك اللعنات، من دون أن يعلم لها من سبب.
فهو حوت ذو جَوْف.
أي أنه ملعون برصد البشر العصاة البائسين ممن اتخذوا البحر مهربًا ممّا فعلوا على اليابسة، فيتسببون بذلك في صداع لا يطاق يصيبه ويصيب كل حوت ذو جوف مثله، بل ويجب عليه أن يبتلع هؤلاء العصاة ويحتفظ بهم في بطنه حتى يذهب ذلك الصداع، وبذلك تكتمل كل أركان اللعنة.
بدأ معه الأمر منذ زمن طويل بصُداع يهشم رأسه، كان يظن أنه بسبب العاصفة، فكان ذلك الصداع يشتد كلما اقترب من العاصفة ويخفت كلما ابتعد عنها، ومع ذلك كان ينجذب له لا إراديًّا كأنه يعلم أنه سيذهب عن رأسه إذا وصل لمصدره، لكن في أحيان أخرى كثيرة يأتيه ذلك الصداع ولا تكون هناك عاصفة، لكن دائمًا ما يكون هناك سفينة بشر.
وفي مرة كان الألم في رأسه لا يطاق، والبحر ثائر، والعاصفة عارمة، وسفينة البشر في خضمّها تسابق الأمواج وتجاهد ألا تنقلب، وهو يسبح حولها يسابقها لكن دون أن يمسّها، ثم فجأة نبض شيئًا في البحر تزامنًا مع ضربة كالمطرقة على رأسه، فتوقف عن السباحة بعد أن أعيته تلك الضربة والصداع أصبح يقتله، حينها وجد أن السفينة قد انقلبت وأسقطت آلاف البشر من عليها في البحر.
ومن بين كل البشر كان واحد بعينه، شعر بأن هذا الإنسان بالذات هو مصدر كل ألم وكل صداع، والسبب في كل لعنة وكل شر في العالم، أراد أن يتركه ليغرق مع البقية، لكنه شعر أن ذلك لن يجدي في إنهاء عذابه، ثم أراد أن يقتله بنفسه، لكن ذوي الأجواف لا يفعلون ذلك أبدًا، كما أن ذلك أيضًا لن ينهي عذابه، ومن ثَمّ فكر أن يفعل الشيء الذي يعلم أنه العلاج الوحيد لدائه، والذي لم يكن يستوعبه أو يصدقه مهما أُخبِر بأنه قادر على فعله.
يعلم فقط أن أول حوت ذو جوف قد ابتلع رجلًا وأخرجه بعدها، ثم انتشر الأمر بين الحيتان الأخرى ذوي الأجواف وليس كل الحيتان، وكرروه من بعد الحوت الأول مع بشر آخرين، لكنه لم يُرِد أن يصدق أنه أيضًا قادر على فعل ذلك.
سبح بوهن إلى ذلك الرجل وقرب إليه فمه يدفعه ويحركه به، كأنه يتأكد إن كان لا يزال حيًّا، ثم فتح فمه وأطبقه عليه وأدخله في جوفه، من دون أن يأكل له لحمًا أو يهشم له عظمًا، وما هي إلا لحظات حتى ذهب عنه الصداع.
لم تكن تلك آخر مرة يلتقم فيها رجل ولم يكن ذلك آخِر من يدخل جوفه، توالت المرات بعدها حتى صار جوفه مكتظًا بالرجال، وكوّن معهم علاقة أغرب ما تكون بين بشر وحوت، فبغضّ النظر عن أن البشر عامةً لطالما كانوا يثيرون اهتمامه؛ إلا أن هؤلاء الذين في جوفه قد أثاروا شفقته وعطفه، فأي ما قد آلَ بأي منهم إلى جوف حوت؛ لم يكن هينًا أبدًا.
وها هو إنسان بائس آخَر يخطو في البحر مسببًا له صداع آخَر يضرب رأسه، صار كثيرًا ما يبتعد عمّا يسبب له الصداع، لكن هذه المرة كان قويًّا لا يخفت مهما ابتعد عنه.
★★★

(2)
ربما لم تكن هناك فرصة ليحلم حتى، استيقظ على ركلة في منتصف وجهه جعلت أنفه ينزف على الفور، وقبل أن تتكرر الركلة أخرج سكينه بسرعة ونهض ليجد نفسه لا زال على السفينة وجميع بحارتها يلتفون حوله، كما وجد نفسه في عرض البحر وهناك يابسة بعيدة تكاد لا تُرى لم يلقِ لها بالًا، فكل ما شغله هو هؤلاء البحارة الغاضبين الذين لا يبدو أنهم ينوون خيرًا.
سحب سكينه ولوّح به أمامه وهو على أتم الاستعداد لاستخدامه، فتراجع البعض بسخرية قبل أن تهوي على يده عصا غليظة شلّت يده وأسقطت السكين منها، عادت نفس العصا تهوي على رأسه وتمكّن من تفاديها، لكن لم يكن سريعًا كفاية ليتفادى أخرى على ظهره.
وبمجرد أن سقط انهالت عليه الركلات والضربات واستمرت حتى لم يعد يشعر بجسده، ثم استمرت حتى أرهقهم ضربه، ثم استمرت حتى غاب عن الوعي مرة أخرى، كل ذلك ولم تصدر منه آهة واحدة، فهو لن يقولها وإن أراد، أو حتى وإن كان يستطيع.
لم يكن أبكمًا بالكلية فهو قادر على الكلام متى أراد، لكن كلامه كله كان همسًا خفيضًا كفحيح الثعابين، فكان من الصعب على من حوله أن يسمعوه، كما أن عملية الكلام نفسها بالنسبة له كانت تتطلب بعض الجهد وتحمل للألم في حلقه، فكان يبكي ويضحك ويتألم كل ذلك في صمت، وإذ كان الأمر كذلك منذ أن كان في الثانية عشر؛ فقد عزف عن الكلام برمّته واختار أن يكون أبكمًا بكل رضى وتواضع، رغم أنه يرى أن كلامه يعد تفضّلًا منه على من يسمعه.
هذه المرة كانت غفوة بسيطة لكنها كانت كفيلة بأن يحلم بأنه يغرق، لكنه في الحقيقة كان يُسكَب على رأسه دلوًا من الماء البارد، وشعر بقليل من الامتنان حين ساعده اثنان على الوقوف إذ لم يكن قادرًا على فعلها وحده، ثم تحوّل امتنانه إلى جحود بعد أن ربطوا يديه حول الصاري وراء ظهره.
جاءه رجلًا وأمسكه من فكه بقوة، وعلم أنه الربّان حين قال بازدراء وغضب:
- كيف صعدتَ إلى متن سفينتي دون أن يلحظك أحد؟
لم يرُد وظل يرمقه في تحدٍ، فأخرج الرجل خنجره ووضعه على رقبته وأضاف:
- قل لي ممّ تهرب وربما سأعفُ عنك
وظل يرمقه في تحدٍ وكبرياء لا يليق بأحد في مثل هذا الموقف العصيب، وعلى مثل هذا الحال الذي يرثى له، وفكر "لن تسمع مني كلمة حتى وإن كنت ستعطيني حياتي في المقابل!"، فشدّد الرجل قبضته وضغط بالخنجر حتى جرح عنقه، وحين بدا أنه سيذبحه حقًا؛ استوقفه فتى صغير من البحارة قائلًا:
- مهلًا! أليس هذا هو الأبكم من يبحثون عنه؟ انظروا إلى رقبته! لقد قالوا أن هناك ندبة في حلقه
قال الربّان وقد تحول ازدراءه إلى تعجب:
- إذًا أنت هارب بالفعل!.. ألهذا الأبكم اسمًا؟
- ‏أه كنتُ أذكره! اسمه غريب! اسمه...
أجاب رجل آخر:
- يسمونه دكرور يا سيدي.. دكرور الأبكم
شعر دكرور بقليل من الإعجاب أنه صار معروفًا لكن لم يُبدِ ذلك أيضًا، ثم قال الربّان:
- ‏وماذا فعلتَ حتى يبحثون عنك يا سيد دكرور؟
فأدلى كل من كان له دلوًا بما فيه:
- الحكايات يشيب لها الرأس يا سيدي.. يقولون أنه قتل عائلته كلها و...
- ‏نعم وصنع من ألسنتهم عِقدًا ووضعه حول رقبته
- ‏لم يصنع منها عِقدًا، بل صنع منها حساءً شهيًّا وأكله...
- لا لا! بل قطع لسان الحلاق الذي تسبب في تلك الندبة، وأطعمه إيّاه
- ‏إنه لم يقتل أحدًا، بل كان يقطع ألسنة البهائم ويأكلها نيئة
- ‏سمعت أنه كان يقطع لسان كل عاهرة أثناء ما كان يضاجعها
- بالفعل وكان يضعه في...
صاح الربّان:
- ‏كفى!!!
فكر دكرور " تبًا! كنت أريد أن أعرف أين أضع ألسنة العاهرات"، والتفت الربّان إليه وقد تحول تعجبه إلى قلق حين وجده يبتسم ويضحك ضحكات صامتة جعلته مخيفًا، بالذات بعد ما قيل عنه، فقال الربّان والقلق في صوته:
- أيها اللعين! لابد أن ما فعلتَ ليس هينًا كي يقال عنكَ مثل ذلك
لمس دكرور القلق في صوت الربّان، فاستمر في ضحكه الصامت الذي لم يجعله يبدو سعيدًا بقدر ما جعله يبدو أنه قتل عائلته، وصنع من ألسنتهم سلسلة، وأكل ألسنة البهائم نيئة، وقطع ألسنة العاهرات وهو يضاجعهم.
ثم قال أحد الرجال للربّان:
- يجب أن نقتله يا سيدي
استدرك عليه آخر:
- بل يجب أن نعيده إلى البر
فقال الربّان حاسمًا الأمر:
- بالتأكيد لن نعود، كما أنني لن أقتل مجنونًا على متن سفينتي، سنُبقِي عليه، لكن اتركوه مقيدًا
★★★

شارفت الشمس على الغروب، وعزفت الرياح الباردة أغنيتها على أوتار خفية معلنة عن قدوم العاصفة رغم أنها لا تزال بعيدة، اعتاد دكرور طوال حياته على المطر يأتي فجأة ويذهب فجأة، لكن رؤيته وهو قادم في موكبه العظيم الذي يسمى العاصفة كان شيئًا يثير الرهبة حقًا.
تنبأ البحارة أن العاصفة لن تصلهم إلا بعد حلول الظلام فسرّعوا من وتيرة العمل لينتهوا منه قبل ذلك دون أن يقتربوا من الصاري المربوط فيه دكرور، فلم يعيروه انتباهًا كأنه غير موجود، فقط كان بعضهم يتفقده من بعيد ثم يشيح عنه حين يبادلهم النظر.
غير ذلك لم يكن دكرور يفعل أي شيء حتى بدا جزءًا من الصاري، ومن حين لآخر كانت رأسه تسقط على صدره من شدة النعاس والتعب والألم، ربما غفا بضع مرات لكنها لم تكن كافية ليبقى مستفيقًا واعيًا بما حوله، ثم قررت عينيه بعناد أن تنغلق لتنام.
ومرة أخرى استيقظ قبل أن ينام بالقدر الذي يسمى نومًا؛ على أذان صلاة المغرب، وسرعان ما اصطف جميع البحارة يؤمهم رجلًا يبدو أكبر من الربّان، تاركين دكرور وراءهم وقد شعر بشيء من الضيق، لكن حتى وإن سمحوا له بالصلاة معهم، وحتى إن كان طاهرًا؛ فهو قد نسيَ ما يقال فيها.
انتهت الصلاة وتفرق الجمع ولا تزال السماء زرقاء قاتمة، ثم أمر الربّان بإنزال كل الأمتعة إلى الكوثل، وربْط كل ما سيبقى على السطح؛ استعدادًا لقدوم العاصفة، ثم سأل الفتى الصغير:
- ماذا عن الأبكم؟
رمق الربّان دكرور ونزل إلى قمرته دون أن يجيب الفتى، وتبعه بحارته فصار سطح السفينة خاليًا ومظلمًا إلا من نور مصباح بعيد لا يصل ضوئه إلى دكرور، فبدا كأنه مختفيًا في الظلام وفكر غير عابئًا بأي شيء آخر في الحياة "أخيرًا قد حان وقت النوم".
لم يكد يغلق عينه حين أفزعه صوتًا قريبًا يقول:
- هل أنت ظمآن؟
جفل دكرور بعصبية فصدم مؤخرة رأسه بالصاري وراءه، ورأى رجلًا يبتسم بوداعة ويحمل مصباحًا بيسراه، وبيمينه يحمل قربة ماء ويقرّبها إليه، ثم لما دقق فيه النظر وجده الإمام، الذي عاد يقول:
- لا تخَف يا فتى، هاك! لابد من أنك ظمآن
ثم وضع القربة على فمه ورفعها فشرب دكرور وهو ينظر إليه بقلق وتعجب، وبعد أن ارتوى وضع الإمام القربة وأخرج كسرة خبز وغمسها في شيء ثم وضعها في فم دكرور الذي زاد عجبًا حين وجد طعم العسل في فمه، أخذ الرجل يكرر الأمر عدة مرات وبعد أن نفد الخبز عاد يسقيه ثانيًا، ثم جلس بجانبه وقال وهو لا زال يبتسم:
- ربما لم تفعل أي شيء مما قاله البحارة، لكنك فعلتَ شيئًا.. صحيح؟
رَد دكرور بإماءة بسيطة بعد برهة من التردّد، فأردف الإمام:
- لا شك أنه شيء تستحق العقاب عليه.. صحيح؟
لم يرُد دكرور ولم ينتظر منه الرجل أن يفعل فقال:
- كما أني لا أعتقد أنك مجنون أيضًا، إذ ليست تلك عيني مجنون
ثم نظر إلى عينيه وأضاف بسخرية:
- ربما أصبحت عينك تتكلم بدلًا من لسانك
ورغم أن مقته وكبرياءه من المفترض أن يمنعاه من الشعور بالامتنان حتى؛ إلا أن دكرور أحس أنه يجب أن يشكر ذلك الرجل، فنحّى عناده جانبًا ووضع كبرياءه وراءه، وهمس:
- أنا لستُ أبكمًا حقًا!
رفع الإمام رأسه ببطء وقد تحولت ابتسامته إلى العبوس والتعجب:
- ماذا؟!! ماذا قلت؟!!
ثم نهض وقرّب أذنه من دكرور الذي أجاب هامسًا:
- أنا لستُ أبكمًا حقًا.. إنه فقط صوتي لا يرتفع أكثر من ذلك
- لقد كاد الربّان أن يدق عنقك.. لِمَ لَمْ تقل شيئًا إذًا؟
- لا يستحق هؤلاء الأوغاد أن يسمعوا مني كلمة، وذلك الوغد خاصةً
- احفظ لسانك! إنه أخي
بدأت العاصفة تقترب أكثر وتتضح زمجرتها أكثر وتطغى على صوت الأمواج والرياح، وصوت الإمام وصوت دكرور بالأخص، فاقترب الإمام أكثر وبذل دكرور جهدًا أكبر ليرفع صوته بالهمس:
- إذًا هل تعلم ماذا سيفعلون بي؟
- في أفضل الأحوال ستباع إلى أول تجار عبيد سنقابلهم
- ماذا عن أسوأ الأحوال
- غالبًا ما يكون أسوأ شيء يحدث في البحر هو الغرق، لكن أنت بالذات يمكن أن يكون الأمر أسوأ بكثير
- وكيف ذلك؟
- لست متأكدًا.. أنت فقط تذكرني بالنبي الصالح يونس عليه السلام
قال دكرور بسخرية:
- أنا أذكركَ بنبي صالح؟! أشكّ في ذلك
يذكر دكرور أسماء جميع الأنبياء ويعرف بعض قصصهم لكن دون أن يذكر أيهم فعل ماذا، وربما أراد الإمام أن يحكي ماذا فعل النبي الصالح يونس عليه السلام؛ لكن قاطعه الفتى الثرثار من وراءه قائلًا:
- سيدي! يريدكَ الربّان في قمرته
- أخبره أني قادم
ثم عاد إلى دكرور وربّت على كتفه وقال بابتسامة:
- لا تقلق.. لا أظن أنه يوجد حيتان كثيرة في البحر المتوسط، سأخبر الربّان أن يدعك تنام في الزنزانة الصغيرة في الأسفل قبل أن تأتي العاصفة، وسيكون كل شيء على ما يرام
ثم انصرف تاركًا دكرور في حيرة مما ستؤول إليه الأمور، ربما من المرجح فعلًا أن يباع كعبد "لا أظنني أصلح للعبودية بأي شكل"، ومن المرجح أيضًا أن يغرق "حسنًا.. لن يكون ذلك بالأمر السيء"، لكن ليس من المرجح أن يحدث ما هو أسوأ، ثم نظر إلى حاله وإلى السفينة من حوله وهمس بصوت يسمعه "ماذا يمكن أن يحدث أسوأ"، فكر أن ينام لكن ذكّرته العاصفة أنها لن تدعه يفعل بأن برِقت ثم زأرَت معلنةً عن حضورها أخيرًا.
التفت عن العاصفة وهو يشعر بقليل من الملل وكثير من البلل؛ بعد أن غادر الإمام، ليجد الفتى أمامه مرة أخرى يحوم حوله ويتفحصه عن كثب بفضول، ثم طرق على الخشب بطريقة معينة، ليصعد خمسة من رفاقه، ففكر دكرور أنهم جاءوا ليصحبوه إلى الزنزانة، لكن حين رأى العصيان والسكاكين في أيديهم؛ علم أنها لن تكون صحبة سارّة.
★★★

بغض النظر عن الفتى الصغير فقد كان الخمسة الآخرون شبابًا يافعين، ربما أصغر من دكرور بعض الشيء، جاء أكبرهم حجمًا وأبغضهم سحنة والوحيد بينهم الذي يحمل سكينًا؛ ووقف أمام دكرور وأشار إليه بسكين وقال:
- ربما خدعتَ الجميع بأنك أبكم لكنك لن تخدعني
ثم بصق على الأرض وأردف:
- نريدكَ أن تلعب معنا لعبة.. ببساطة إذا قلت "آه" ستخسر
فكر دكرور وهو يبتسم "ألعب تلك اللعبة منذ أربعة عشر عامًا ولم أخسر إلى الآن"، رأى الفتى ابتسامة دكرور فضحك هو الآخر وقال:
- أه! أعلم أنك ستحبها
وفعل تمامًا ما توقعه دكرور، إذ وضع سن سكينه على صدره وبدأ يدفعه ببطء، لكن لم يدعه دكرور يتعدى قماش قميصه حتى، فركله أسفل بطنه فانحنى الفتى وابتعد، ثم انهالت ضربات العصيّ على دكرور، ثم كفّوا وقيّدوا ساقه وعاد الفتى البغيض يغرس سكينه في صدره في نفس الموضع لكن تلك المرة كانت أسرع كثيرًا.
وكما هي عادته؛ التزم دكرور بقواعد اللعبة التي يتقنها فلم يصدر منه صوت أنفاسه حتى، ثم تراجع الفتى ليشاهد ما صنع فلم يبدُ عليه الرضى وهو يقول:
- أتعلم؟! يجب أن نغير قواعد اللعبة...
وعاد يسحب سكينه من صدر دكرور فآلمه ذلك أكثر من غرسه، ثم قال وهو يفك قيده من وراء ظهره:
- الآن إذا قلتَ "أرجوك" فستخسر، ربما ستخسر اللعبة لكن ستكسب أننا سنتركك وشأنك، حسنًا فلنبدأ من الآن!
تحرر دكرور من قيوده وفكر "لقد جعلتَ اللعبة أسهل كثيرًا"، وقبل أن يستعد للمقاومة نزلت عصا على رأسه أسقطته أرضًا دون أن يغيب عن الوعي، ثم عادت الضربات تنهال على جسده حتى لم يعد قادرًا على تحريك شيء فيه، فربطوه بحبل حول صدره يمر من تحت إبطيه، وجرّوه به إلى المقدمة، ورآهم يلفون الطرف الآخر حول العمود الأفقي الذي يخرج من مقدمة السفينة، وقال الفتى أخيرًا:
- كم أنك تجيد هذه اللعبة! أحسنتَ! لقد فزت...
ثم حمله بمساعدة البقية وأنزلوه برويّة من مقدمة السفينة إلى البحر حتى غُمِس كله في المياه الباردة، وظل يضرب المياه حوله بعصبية، قبل أن يُرفَع مرة أخرى حتى أصبحت قدماه فقط ما كانا منه في الماء، فصار كأنه يقف عليها دون أن يسقط.
أول ما فكر فيه دكرور وهو على ذلك الحال هو أن ينام بالطبع، لكن الجرح الغائر في صدره، والحبل الرفيع الذي يضغط عليه، والأمطار التي تشتد مع كل قطرة تسقط؛ كل ذلك كان مما منعه عن النوم بل وعن التنفس حتى، وقال في نفسه "أخيرًا قد وصلت الأمور إلى أسوأ ما يمكن".
قطع تفكيره وربما قطع نومه الوشيك؛ صوت غريب عالي طغى على صوت المطر، كان كصوت موجة عالية تزحف على الشاطئ أو كصوت سكب الماء على الحطب الملتهب، تبعه رائحة كريهة من حيث لا يدري، فالتفت نحو مصدرها فرأى طيفًا شفافًا طويلًا سرعان ما بدّدته الأمطار، لكن لم يلقِ دكرور لأي من ذلك باله وبدأ يغيب عن الوعي شيئًا فشيء، ورغم امتنانه لذلك؛ إلا أنه تلك المرة لم يكن بسبب النعاس بل بسبب الإعياء والسقم، وتلك المرة كانت كفيلة لأن يحلم.
وقف دكرور وحده في ثبات وشموخ يشاهد مشنقته وهي تتأرجح مع الرياح على منصة الإعدام التي في وسط الميدان الكبير لم يكن وحده على المنصة فقط لكن في كل الميدان بل في كل العالم أدخل رقبته في حلقة المشنقة بكل استسلام ورضى وانتظر أن تنفتح المنصة من تحته ثم تذكر أنها لن تنفتح إلا إذا سحب الجلاد المقبض مدّ ذراعه وسحبه فانفتحت المنصة من تحته لكن لم يسقط على الفور نظر أسفله فوجدها حفرة عميقة ليس لها قرار ولم يرَ فيها شيئًا لكنه سمع صوتًا من داخلها يناديه دكرووور دكروووور ودون سبب أو سابق إنذار سقط في الحفرة متوقعًا أن يشتدّ الحبل حول عنقه فيكسره أو يخنقه لكنه ظل يهوي كأن الحبل قد انقطع
استيقظ دكرور فجأة ليجد الحبل يشَدّ بفعل ثقله بعد أن كان مرتخيًا بطريقة ما، ويجد شيئًا يتحرك من تحته لكن دون أن يرتفع عن سطح الماء، ففزع وظل يلتفت حول نفسه بعصبية، وحاول أن يتسلق الحبل لكنه كان أضعف من أن يحمل ثقله كما أن الحبل كان أرفع من أن يقبض عليه، وفي نفس الوقت تناهى إلى سمعه صوت ينادي:
- دكروور! يا أبكم!.. يا دكرووور!
ظن أنه لا يزال يحلم، لكن الأحلام لا تكون بهذا الوضوح، فتأكد أنه الواقع بقتامته، وعلم أنه الإمام من يناديه، وسمع صوت خطواته على طول سطح السفينة جيئةً وذهابًا، سمعه يقترب فنظر أعلاه ولم يرَ سوى يده تمسك بسور السفينة، ثم سمعه يصيح من فوقه مباشرةً:
- يا دكرور!! أين ذهبتَ أيها الأبكم؟!!
فتساءل دكرور في نفسه عمًا إن كان لديه صوته فهل سيستعمله لطلب النجدة؟، جعله الخاطر يشعر بالمرارة، إذ كان خلاصه يبحث عنه ويناديه من فوقه، وهو غير قادر على نجدة نفسه بأي شكل، وذلك مما جعله يشعر بالشفقة على نفسه، هذا الشعور بالذات هو ما كان يحاول تجنبه طوال حياته، ثم حين كف الإمام عن مناداته وسمع صوت خطواته تبتعد، وإذ إنه قد قاوم ذلك الشعور أكثر من مقدرته على المقاومة؛ فلم يجد حرجًا من قليل من البكاء.
جعله كل ذلك لا يلحظ سرعة السفينة وشدة الرياح وعلوّ الأمواج، إلى أن لطمته أحد تلك الأمواج فكفّ عن البكاء على الفور، ثم توالت الأمواج كل واحدة أعلى من سابقتها، حتى حضرت موجة غاضبة عالية، واجهتها السفينة بشجاعة بأن اعتلتها حتى كادت أن تطير من فوقها في الهواء، لكن سرعان ما عادت تسقط كأنها تهوي من أعلى جرف، ودكرور بين رحى تلك المعركة بين السفينة والبحر، يغرق مع كل هجوم ويتأرجح من مقدمة السفينة بقوة في جميع الاتجاهات كأنه معلق من قرن ثور هائج، والحبل الرفيع يكاد أن يخلع ذراعيه من إبطيه.
وظل يرتفع أعلى السفينة حين تهبط هي من على الموجة، ثم يعود ليسقط معها بعنف، وهو يحاول في كل مرة أن يتمسك بأي شيء من السفينة حتى تمنى أن يسقط عليها، فلن تؤذيه السقطة أكثر مما قد حدث بالفعل.
هدأت السفينة لبرهة وإن لم تهدأ سرعتها، قبل أن يلاحظ دكرور موجة عالية بدت كأنها آتية من بحر آخر أكبر وأعلى من هذا الذي هو فيه، أسرعت إليها السفينة كأنها تستعجل حتف دكرور أولًا وحتفها هي ثانيًا، واخترقتها من أعلاها في شجاعة منقطعة النظير، ثم خرجت منتصرة من الجهة الأخرى وبدأت رحلة سقوطها، فارتفع دكرور عنها بقوة إلى أن بلغ آخر الحبل واشتدّ حول صدره، ولاحظ أخيرًا أنه فوق سطح السفينة تمامًا وأنه سيسقط عليه بعد ثانية، لكن مرّت تلك الثانية وتبعتها أخرى وهو لا يزال في الهواء، حتى ظن أنه قد مات وتلك هي روحه وقد صعدت لتحاسَب، لكن حدث ما هو أسوأ.
علم دكرور متأخرًا أن الحبل قد انقطع فلم يخِفه ذلك بقدر ما أرعبه أنه صار حُرًّا كطائر يطير في السماء، وأنه من الممكن أن يسقط في الماء وليس على السفينة كما أراد.
بالطبع مثل تلك الحياة البائسة، ومثل ذلك اليوم القاسي؛ يجب أن ينتهوا مثل تلك النهاية المأساوية، وأخيرًا سلّم دكرور لما هو آتٍ، وأرخى جسده لكي يحمله الهواء، لكن الهواء كان أضعف من أن يفعل، وسلّمه تسليمًا إلى البحر، لكن أظلمت الدنيا قبل أن يصل إليه، فنام دكرور من فوره أو ربما قد مات، لن يعرف حتى يستيقظ، أو يظل نائمًا إلى الأبد.
★★★

(3)
كان قد عاد لتوّه من رحلته إلى السطح للتنفس عندما شعر بضربة على رأسه، فسبح بسرعة يبتعد عنها كما تعوّد أن يفعل، فقد كان كثيرًا ما ينتابه الصداع وكثيرًا ما يتولى عنه مبتعدًا، لكن هذه المرة كان قويًا لا يخفت مهما ابتعد عنه، فعاد يسبح إليه معتمدًا على شدة الألم في رأسه لتحديد طريقه.
لم يسبح كثيرًا حتى وجد نفسه قريبًا من يابسة، ولقيَ أمامه عاصفة هائلة عَلِم أنها تلك المكلّفة بإغراق ذلك الإنسان المزعج، لكنها لن تصله إلا بعد حين، فقرر أن ينتظر العاصفة لتدركه أولًا، لأنه إذا سبقها إليه لن ينوبه سوى شدة الصداع الذي يكون على أشده وهو بجانب السفينة التي عليها الرجل الشقيّ.
وأثناء انتظاره وجد سفينة أخرى تقتل الحيتان عرفها فقط من رائحتها فقط، فقرر أن يُخرِج إليها رجاله، فأصدر أغنيته المميزة التي يعلمون أنها تخبرهم بأنه وقت الخروج، والتي لم يفهموا سواها.
لم يكن رجاله يفهمون أي من أغانيه التي فيها يتحدث إلى حيتان أخرى أو إليهم، لكنهم كانوا يفهمونها بينما هم نائمون، ففي الأحلام يتحول الغناء المبهم إلى كلام واضح مفهوم، فيخبرهم في أحلامهم بأشياء ويخبرونه بأشياء، ولذلك كان يحب عندما ينامون.
فتح فمه بجانب السفينة من دون أن يظهر على السطح، وخرج من جوفه الرجال الواحد تلو الآخر ما عدا واحد لم يكن يخرج أبدًا، ثم انتظرهم حتى انتهوا ولم ينتظر كثيرًا.
ما يحدث هو أنه يُخرِج الرجال من جوفه إلى تلك السُفُن التي لا تفعل سوى قتل الحيتان، يخرجون إليها لإغراقها وقتل كل من عليها، لأنهم يعلمون أنه لا يقتل البشر بنفسه أبدًا، يعد ذلك نفاق بكل معاني الكلمة، لكنه كحوت لم يكن يعلم أي من معاني تلك الكلمة على كل حال.
كما أن جميع سكان جوفه يجيدون القتل بل يبرعون فيه، فيا لها من قدرة فذة! قدرة الرجل على قتل الرجل، إن لم يكن لها رادع فستصبح قدرة مطلقة، من ذاقها لذّها، ومن لذّها أبدع فيها، تكاد أن تكون موهبة لمن اتخذها هواية، كما أنها لعنة لمن اتخذها مهنة، ليس ما أثار عجبه وسيلة القتل أو إزهاق الروح فذلك أسهل ما يكون، لكنه في المقدرة نفسها، المقدرة على رفع الحربة أولًا، وليس غرسها.
لم يعلم حينها سبب فعلهم ذلك، ربما يروّحون عن أنفسهم فحسب، بدأ معهم ذلك الأمر كصُدفة عفوية كادت أن تودي بهم، بعد أن جعلهم يشاهدون صيد الحيتان وقتلها بأم أعينهم وليس في الأحلام كما كان يفعل، هو لم يكن يقصد أن تؤول الأمور إلى ذلك، لكنه أيضًا ممتنًّا لهم ولما يفعلون.
عاد رجاله كما ذهبوا ودخلوا جوفه كما خرجوا، فأكمل طريقه إلى وجهته الأصلية، ولم ينتظر حتى تغرق السفينة، لكنه كان يشعر بشيء غريب في البحر غير الرجل سبب الصداع، كما شعر بشيء غريب في جوفه أيضًا، فسأل أحد رجاله كان قد نام فور أن عاد:
- هل كلكم بخير؟
رَد الرجل:
- نعم، كان الأمر سلِسًا كالمعتاد
- أعني أليس فيكم مصاب؟
- كما قلتُ!.. كل شيء بخير كالمعتاد، لكن لمَ تسأل؟
كان المعتاد هو أن يرجع منهم جرحى ومصابين وبعضهم على شفا الموت، لكن جراحهم تلتئم وبعضها يشفى تمامًا عندما يعودون للجوف.
- لا أدري.. أشعر بشيء غريب، كنت متوجهًا لالتقام أحدهم و...
قاطعه الرجل بانفعال:
- حقًا!! هل هو وافد جديد؟!! أه! لم نستقبل وافدًا جديدًا منذ... منذ عشر سنوات تقريبًا
لم يكن يدرك الأعداد أو الحساب لكنه كان يعلم أن رجاله مكتملي العدد في جوفه، ورغم ذلك شعر بأن أحدهم ناقص أو ربما ميّت، وبالفعل كانت هناك جثة في جوفه.
ترك رجله النائم وانتبه للبقية المستيقظين، عندما كشفوا عن جثة بينهم لكنها ليست لأحدهم، فتأكد شعوره بأن هناك منهم رجلًا ناقصًا، وعاد مسرعًا إلى السفينة ليجدها نصف غارقة، أخذ يبحث حولها عن رجُله المفقود أو حتى عن جثته ولم يجد شيئًا، لكنه وجد قاربًا بعيدًا يسبح باتجاه اليابسة وسط العاصفة والأمواج العالية التي تكاد تقلبه، وعلم أنه هو.
ربما غاب عن الوعي بعدها، فلم يدرِ ما قد حدث إلا بعدما حدث، فشعر بالحيرة كأنه فقد شيئًا، بل إنه بالفعل قد فقد شيئًا، وهو بنفسه من تسبب في ذلك، شعر لذلك بالمقت من نفسه، فما قد حدث لم يحدث من قبل، فلم يعلم أي إنسان قد حاول الهرب من جوف حوت من قبل، كما لم يعلم حوت ذو جوف حاول القتل من قبل.
كان محتارًا تائهًا لا يعلم ماذا يفعل، وسأل نفسه ماذا فعل لكي يحاول ذلك الرجل بالذات أن يهرب، ورغم أن الحياة بداخل جوف حوت لا يجب أبدًا أن تكون سعيدة؛ إلا أنه حرص على ألا يشعر رجاله بذلك، كما أنهم كانوا يسكنون جوفه وراضين بتلك الحياة، بل وربما سعيدون بها، لكنه لم يعلم أن منهم رجلًا ليس راضيًا بعيشته تلك وأنه ساخطًا هكذا، وأنه مستعدًا ليدفع حياته من أجل حريّته.
عاد مرة أخرى يتوجه إلى وجهته الأولى نحو مصدر الصداع الذي ضاق به ذرعًا بالفعل، وكما كان الألم حزنًا على الرجل الذي فقده شديدًا؛ كان الألم في رأسه أشد ما يكون عندما وصل إلى السفينة، وظل يسبح من حولها بهدوء في انتظار العاصفة حتى تأتي وتغرقه بعد أن سبقها إليه.
وأثناء ذلك شعر فجأة بنبضة ضربت البحر وضربت رأسه بدورها، فعلم أن الرجل قد سقط في الماء، وتعجب حين لم يجد أحدًا في الماء، ثم وجده يتدلى من السفينة بحبل وبالكاد يلمس المياه بقدمه، فمكث حوله في انتظار أن يغرق، لكنه أيضًا لا يغرق، فأخذ يخرج رأسه من الماء ويدفعه لكنه بدا كأنه مات، لكن لا يزال يسبب الصداع.
وظل هكذا حتى عَلَت الأمواج أكثر واحتدّت العاصفة أكثر، وأخذت السفينة تسابقه وهي تعتلي الأمواج وتسقط من عليها لكن تأبى أن تغرق، وعندما أنهكته المطاردة وصارت السفينة تسبقه؛ شعر بأنها قد أفلتت حملها الذي تحمل، فأدرك مرة أخيرة أن الرجل قد سقط من عليها، فبحث عنه في المياه ولم يجده فيها بل وجده فوقه في الهواء، فاخترق السطح بقوة فاغرًا فاه على اتساعه والتقم الرجل وهو في الهواء، وأطبق عليه فمه وعاد يهوي به في المحيط، وسرعان ما ذهب الصداع.
وإذ كان الرجل نائمًا بالفعل فقرر بما أنه أول يوم له في جوفه أن يحدّثه وربما يطمئنه، فرحّب به قائلًا:
- مرحبًا بكَ في عالمي!
★★★

الشمس لم تشرق بعد لكن السماء مضيئة على كل حال، وكتلة الغضب العظيمة التي تسمى العاصفة قد ابتعدت، مخلفةً وراءها البحر مضطربًا، رماديًا فيه شيء من الخُضرة.
كان دكرور في الماء بالفعل ينظر إلى مشرق الشمس كأنه ينتظرها، وكل ما يفكر فيه هو أنه يطفو ورأسه فوق سطح الماء رغم أنه لا يجيد السباحة، حتى سمع صوت صفير آتٍ من ورائه بدا كأغنية، أغنية عميقة تخترق صدره قبل أذنه، فالتفت إلى مصدرها ليجدها سفينة كبيرة.
وكأن تلك الأغنية كانت دعوة للركوب؛ صعد دكرور على متن السفينة بسهولة كما يصعد إلى فراشه، كانت سفينة غريبة بها شيء في غير محله لكن لم يهتم دكرور، فكل ما شغله هو أنه ليس في الماء.
شعر أن هذه أول مرة يركب سفينة في حياته، وبعد دهرًا لاحظ أنه لا توجد صواري أو أشرعة أو طاقم أو أي شيء، مجرد سطح.
انطلقت صافرة أخرى كانت أطول وأوضح لدرجة أنه أيقن أن مصدرها ليس أي سفينة، حينها شعر أنها تكلمه وأنصت أكثر فسمع صوت عميق من البحر، كأن البحر نفسه هو من يتكلم:
- كنت أقول مرحبًا بك في عالمي
فكر دكرور "لا يبدو هذا كعالم آخَر غير الذي أعرفه، إن به بحرًا يشبهه تمامًا"، ثم سأل بصوتٍ يسمعه:
- أين أنتَ؟.. أين أنا؟
- أنتَ في أمان
بالفعل كان دكرور يشعر بالراحة والأمان والسكينة على غير عادته، كما بعثت الكلمة نفسها السكينة في نفسه أكثر، نظر في الآفاق من حوله ليجد كل ما حوله بحر، وبدون سبب عرف أن هذه السفينة ليست هي نفسها التي ركبها أولًا، فالتفت حوله بعصبية يبحث عنها وسأل:
- أين السفينة التي ركبتها من الميناء؟
- إنها أيضًا في أمان.. انظر!
ودون أي إشارة نظر دكرور أعلاه إلى السماء، ليجد سفينة تسبح في سحابة، لم يظهر منها من تحت السحابة سوى بطنها، كأنه ينظر إليها من قاع البحر، لكن لا يبدو أنه في قاع البحر.
لم يَعجَب دكرور ولم يبالِ كأنه رأى طائرًا يطير، فعاد يقول:
- لكني كنت أغرق.. من المفترض أني ميّت الآن
تساءل بلا مبالاة كأن هذا أيضًا شيئًا عاديًا، فجاءه الرّد:
- بالفعل! لكن هل يبدو لك هذا مثل الموت؟
استنشق دكرور الهواء بعمق ونظر إلى جسده كأنه أول مرة يراه وقال في شرود واستغراق:
- ربما.. لا أعلم ماذا يبدو هذا، لكنه شيء غريب
- بل إنه أغرب من الموت
كان دكرور بطريقة ما يشعر أنه في بيته، أو أنه المكان المناسب لأن يكون فيه، أو ربما هو المكان الذي لطالما كان يناديه، لذلك لم يسأل أولًا أين هو لكنه سأل:
- صحيح! لم تقُل من أنتَ
- ربما ليس من المفترض أن تعلم الآن، خاصةً وأنت هنا
- كما أنك لم تقل أين هنا أيضًا
- لقد قلتُ أنك في أمان، أنت الآن نائم وتحلم في أمان
شعر دكرور بالسعادة تغمره حين علم أنه نائم، لكنه تعجب من ذلك أيضًا فعاد يسأل:
- أليس من المفترض أني قد غرقت؟
- بلا!
- إذًا ألا يجب أن أكون في أعماق البحر الآن؟!
- أولَستَ كذلك؟
ارتفعت الأغنية وتوالَت الصافرات دون فاصل بين الصافرة والأخرى، وبدأت السفينة تتحرك من تلقاء نفسها، ليس هو أو أي طاقم من يبحر بها، ثم أخذت تغوص للأبد ولا تغرق، ثم انقلبت على نفسها فجأة فدارَت الدنيا، توقع دكرور أنه سيكون رأسًا على عقب في داخل البحر، لكنه كان نائمًا ممددًا يسعل الماء، وأشكال بشرية غير واضحة تحيط به وسط نور أصفر جميل جعلته رؤيته يعود للنوم مرة أخرى، شاعرًا بالراحة والقلق أنه لا يزال حيًّا.
★★★

كان دكرور قد قدم لي القهوة وخرج من البيت، فأخذت القهوة وتأبطتُ الكتاب وصعدت إلى الغرفة حيث نمت، لأكمل قراءة الفصل الأول من روايته حتى شعرت بالتعب والنعاس، رغم أنني قد استيقظت منذ ساعة فقط، فجلست بجانب شرفة تطل على البحر ومن تحتي كان المرفأ، وفي السماء كان نصف قمر، لكنه كفيل لأن يجعلك ترى سواد البحر وموجه.
بعد أن تعيش لقرن ونصف، وترى كل شيء، وتذهب إلى كل مكان يمكن الذهاب إليه، وتعرف أناس أكثر مما تتذكر؛ تصبح الأشياء كلها متشابهة، والأماكن قليلة، والوجوه مألوفة، لذلك بعد أن تعيش لقرن ونصف، وترى شيئًا جديدًا، وتذهب إلى مكان جديد، وتعرف أشخاص جدد؛ يكون كل ذلك بمثابة تذكير كم أنك قد عشت لفترة قصيرة، لذلك كان هذا أفضل أيام حياتي منذ سنوات عديدة.
وربما كان أفضل ما حدث لي اليوم هو أن بدأت في قراءة رواية جديدة، بعد أن قرأت تقريبًا كل ما يمكن قراءته، ويئست من أن أجد رواية جديدة تستحق القراءة.
لا زلتُ غير مقتنع أنها قد حدثت بالفعل، وأن دكرور قد ألفها من مخيلته، فلم أتعجب من أنه أبكم ودكرور الحقيقي ليس كذلك، إلا أني شعرت بالشفقة على دكرور الذي في الرواية، ثم إنه ماذا فعل قبل أن يركب السفينة؟.
قطع تفكيري وأعاد إليّ انتباهي رؤية أحدهم يسير على طول المرفأ بهدوء لكن كانت لخطواته صوت، لم أتبينه لكن علمت أنه دكرور عندما سمعت سعال سام آتٍ من الغرفة المقابلة حيث قال أنه سيكون، وصل عند آخر حافة المرفأ ووقف قليلًا، فبدا لي في ضوء القمر الخافت أنه يكلّم أحد، إلا أني لم أسمع كلامًا، بعدها رأيته بوضوح وهو يجثو وينحني نحو الماء، ثم عاد يقف وخطا خطوة إلى الأمام ليسقط في الماء بوضع قائم.
أخرجت رأسي من النافذة وحددت النظر أبحث في البحر بذهول، وبعد دقائق قليلة عدت أجلس حائرًا، فكرت أن أنزل وأتفقده بنفسي أو أن أخبر سام، لكن هناك ما منعني، ربما رهبة ما مبهمة من هذين الرجلين، أو هو توجّس من ودّهما الغير مبرر تجاهي، ومن هذا المكان الغريب، والأغرب من كل ذلك كانت الرواية التي بين يدي.
انتهيت من التفكير في النزول، وفكرتُ أن أقرأ فصلًا آخَر من الرواية، بعد أن أثار كاتبها انتباهي أكثر، لكن غلبني النعاس قبل أن أفعل.
استيقظت في اليوم التالي لا أصدق أني قد نمت عشر ساعات أخرى، ربما كان بسبب السفر والإرهاق، لكن لا يزال الوقت قبيل الشروق فلم أجد ضيرًا من إكمال الرواية، فجلست أقرأ في هدوء على صوت أمواج البحر...
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.